دور الطاقات البشرية في العمليات والتحسين المستمر 

المقدمة

دور الطاقات البشرية في الشركات والمؤسسات لا يقتصر فقط على تنفيذ المسئوليات والواجبات المذكورة في بطاقات الوصف الوظيفي، بل يجب أن يتعدى ذلك إلى دور الموظف في المساهمة في التحسين المستمر، ليس بشكل إجباري أو قصري، ولكن من خلال بناء الثقة بين الإدارة والموظف ليكون هذا التعاون طوعيا وأبعد من مفهوم “تلبية نداء الواجب” فقط أو تنفيذ الحد الأدنى من الواجبات.

علاقة الطاقة البشرية بالعمليات

العمليات (Operations) هي الوظيفة الجوهرية في كل الشركات والمؤسسات، والعمليات هي المسئولة عن تكوين المنتجات والخدمات وهي مهمة في كل الشركات الكبيرة والصغيرة والناشئة وحتى المؤسسات غير الربحية وغير الحكومية.

 العمليات هي تحويل المدخلات الي مخرجات سواء كانت منتجات (سلع) أو خدمات أو نشاطات   (Tasks) وهذه المدخلات هي الطاقة البشرية والمواد والمعلومات والمنشأة والموجودات من معدات وآلات والتكنولوجيا المستخدمة إضافة إلى طرق العمل والمعايير والمواصفات والموارد الإرشادية المختلفة.

أما إدارة العمليات فهي مجموع الوظائف المسئولة عن تحويل المدخلات إلى مخرجات بكفاءة وفاعلية. الكفاءة أي (Efficiency) هي استغلال الموارد بأفضل شكل ممكن وأقل تكلفة، والفاعلية (Effectiveness) وهي ضمان تحقيق النتائج المطلوبة وتجهيز المنتجات والخدمات بالطريقة التي يطلبها أو يتوقعها العميل المستخدم للمنتجات أو المتلقي للخدمات.

من الخطأ الفادح أن نعتبر العنصر البشري من موارد الشركة مثلها مثل الموارد الأخرى كالمواد والمعدات لأن الطاقة البشرية أو بما يعرف بالموارد البشرية هي ليست موارد شيئية ومادية ولا يجب أن تعامل على أساس أنها موارد.

أهمية إدارة العمليات

كل موظف داخل الشركة أو المؤسسة يدير عملية من نوع ما فكل الوظائف على اختلاف أنواعها هي مجموعة مترابطة من العمليات الصغيرة (Processes) والموظف مسئول عن إدارة عملياته بكفاءة وفاعلية وأيضا تحسينها.

الفرق بين منظومة العمليات الرئيسة في الشركة (Operations) والعمليات الصغيرة أو الفرعية (Processes) هو أن الأولى تخدم الزبون الخارجي للشركة (External Customer) والثانية تخدم بما يسمى الزبون الداخلي (Internal Customer) وهو الشخص أو فريق العمل أو الدائرة التالية في تسلسل العمليات.

التحسين و التحسين المستمر

التحسين هو إجراء تعديلات على العمليات الفرعية بحيث يتم زيادة الكفاءة والفاعلية. وهي تتلخص بأن يتم دراسة وتحليل العمليات ومن ثم استخدام أدوات تحسين متنوعة ومعروفة لجعلها أفضل (من ناحية الجودة) وأسرع (من ناحية الوقت المطلوب للإنجاز) وأقل تكلفة (من ناحية تكاليف إنجاز العمل) وأبسط (من حيث الإجراءات) وأكثر أمنا (من ناحية السلامة العامة). طبعا على ألا يكون أي تحسين على حساب الآخر.

أما التحسين المستمر فهو أن يقوم الموظفون أنفسهم بتحسين عملياتهم بشكل تدريجي ولكن مستمر من خلال منظومة محكمة بعد أن يتم تعليمهم أسس التحسين وأدوات التحسين المختلفة وأساليب حل المشكلات.   

الشفرة الوراثية للشركات و المؤسسات

إن الطاقات البشرية أو الموظفين (People) والعمليات (Processes) هما العصب الرئيس لأي شركة أو مؤسسة وعلاقتهما متشابكة كالسلم اللولبي مثل ال (DNA). ويمكن تقييم أي شركة من خلال هذه الشفرة الوراثية ومن خلال كفاءة وفاعلية عملياتها وبنفس الوقت كفاءة وقدرة موظفيها.

إغلاق فجوة الثقة بين الإدارة و الموظفين

هناك أمران مهمان على كل إدارة شركة أن تعلمها أن الموظفين يتوقعون من إدارة الشركة أن تمارس ما يلي:

التقدير العاطفي (Emotional Recognition)

وهو أن تقدر الشركة أنها تتعامل مع إنسان وهذا يعني أن الموظف هو إنسان لديه احترامه وكرامته وخصوصيته وظروفه. وهذا أيضا يعني أن الإنسان معرض للخطأ وهو شيء طبيعي فالإنسان ليس معصوما عن الخطأ ويجب أن تتعامل معه على هذه الأسس.

التقدير الفكري (Intellectual Recognition)

وهو أن تقدر الشركة أن الموظف صاحب فكر وعقل ويجب احترام رأيه والأخذ بأفكاره والاستماع إلى اقتراحاته وتطبيقها كلما أمكن ومشاركته باتخاذ القرارات التي تخصه وتتعلق بعمله.

إذا استطاعت الشركة أن تعترف و تطبق هذين التقديرين فإن الموظف سيقوم بأكثر من الحد الأدنى المطلوب منه بشكل طوعي  (Voluntary Cooperation)و ذاتي خارج نطاق “نداء الواجب”

 (Call of Duty).

كيف تستطيع الشركة أن تتوصل إلى الاعتراف وتطبيق هذين التقديرين؟

يتم ذلك من خلال تطبيق العملية العادلة Fair Process. وهي من أعمال أستاذين جامعيين من جامعة هارفرد وتستخدم لتنفيذ البرامج والمبادرات الاستراتيجية. والعملية العادلة في الأساس نشأت لسن القوانين من خلال إشراك الناس. وهي تطبيق ثلاثة قواعد رئيسية هي:

القاعدة الأولى: إشراك الموظفين  (Engagement)

وهذه القاعدة تتطلب أن يتم إشراك الموظفين في القرارات التي تخصهم وتخص عملهم.

القاعدة الثانية: الشرح الوافي (Explanation)   

و هذه القاعدة تتطلب من الإدارة العليا تقديم الشرح الوافي عن القرارات اأو المبادرات الجديدة المنوي اتخاذها و بيان الأسباب من ورائها.

القاعدة الثالثة: توضيح التوقعات (Expectation Clarity)   

من واجب الإدارة العليا أن توضح للموظفين التوقعات الإيجابية وحتى السلبية الناتجة من اتخاذ القرار

ويتم ذلك عند اتخاذ أي قرار يتعلق بالموظفين سواء كان شخصيا أو في طريقة عملهم.

إن تطبيق العملية العادلة يؤدي إلى التقدير العاطفي والتقدير الفكري وبالتالي يؤدي ذلك إلى الثقة والالتزام من قبل الموظفين فيصبح لديهم الرغبة في التعاون الطوعي أي “أنني سأعمل أكثر مما يتطلب نداء الواجب” وستكون النتيجة إنجازات تفوق التوقعات مبنية على المبادرات الشخصية.

وبعكس ذلك وفي حال عدم تطبيق قواعد العملية العادلة فلن يتحقق التقدير العاطفي والتقدير الفكري مما يؤدي إلى الإحباط وعدم الثقة وعدم الالتزام والشعور بالعزلة عن الإدارة وعدم المبالاة وبالتالي سيسود جو من عدم الثقة وخلق فجوة كبيرة فتلجأ الشركة إلى أسلوب القيادة والسيطرة (Command and Control) لتضمن من الموظفين أن ينجزوا فقط الحد الأدنى من المطلوب منهم و تحاسبهم على كل كبيرة و صغيرة. وهو ما يحدث فعلا في معظم شركاتنا ومؤسساتنا حاليا.

إن زراعة ثقافة التحسين المستمر وخلق منظومة لتطبيقه هو تطبيق فعلي للعملية العادلة على أرض الواقع.

بناء منظومة التحسين المستمر في الشركات

المتطلبات الأساسية

الشرط الأول والأخير لبناء منظومة التحسين المستمر في أي شركة أو مؤسسة هو وجود النية الصادقة والعزيمة لدى الإدارة العليا بزرع هذه الثقافة وتأسيس هذه المنظومة ومتابعتها يوما بيوم.

 والشرط الثاني أنه يجب التفكير فيها على أساس أنها رحلة طويلة لها بداية وليس لها نهاية.

والشرط الثالث أن تخصص الإدارة العليا الوقت الكافي لنشاطات التحسين المستمر وخاصة في البداية و حتى لو كان على حساب وقت العمل.

كيف تشكل منظومة التحسين المستمر؟

الفريق التوجيهي للتحسين المستمر

يتم اختيار فريق من أربعة إلى خمسة موظفين يرأسه موظف كبير لتطبيق ومتابعة التحسين المستمر.  ويفضل أن يقود الرئيس التنفيذي أو المدير العام نفسه هذا الفريق.

محاور التحسين المستمر

تعمل منظومة التحسين المستمر من خلال ثلاثة محاور:

المحور الأول: عمل المجموعات الصغيرة وهي مجموعات عمل تشكل داخل الأقسام من خمسة إلى ستة أفراد وتجتمع يوميا أو عدة مرات في الأسبوع. يتم خلال الاجتماعات طرح الأفكار والاقتراحات عرض المشكلات القائمة وعمل خطط تحسين لحل المشكلات وإجراء التحسينات حتى لو كانت بسيطة.

المحور الثاني: وهو مشاريع التحسين حيث أن بعض عمليات التحسين تحتاج إلى الوقت والمصادر ومنها ما يحتاج إلى موازنة مالية. وهذه المشاريع يعين لها فريق من عدة تخصصات يقدم خطة عمل وتتابع من قبل فريق متابعة التحسين المستمر في الشركة. وتكون مشاريع التحسين لإجراء تحسينات كبيرة ولها أثر واضح على الشركة.

المحور الثالث: وهو نظام الاقتراحات حيث يتمكن أي موظف من تقديم اقتراح تحسين مكتوب قد يكون خارج نطاق عمل المجموعات الصغيرة ويعرض على فريق متابعة التحسين المستمر في الشركة للموافقة وتخصيص المصادر المطلوبة.

مراحل تطبيق التحسين المستمر

مرحلة التعليم والتثقيف

تبدأ رحلة التحسين المستمر بتعليم وتثقيف الإدارة العليا عن عمل منظومة التحسين المستمر وعن بعض أدوات التحسين.

الخطوة الثانية هي تعليم وتدريب الإدارة الوسطى.

الخطوة الثالثة هي توعية جميع موظفي الشركة من خلال ورش عمل لبيان أهمية وفوائد التحسين المستمر والتأكيد على نية الإدارة الجادة في إجراء تغيير في طريقة التعامل مع الموظفين.

العلاقة بين التحسين المستمر والابتكار

إن التحسين المستمر والابتكار وجهان لعملة واحدة. الفرق بينهما الأدوات المستخدمة. فالابتكار له أدواته الخاصة التي تختلف عن أدوات التحسين المستمر. كثير من الشركات تؤسس فريق عمل كنواة للابتكار من خلال زرع الثقافة الريادية والتفكير الابداعي وهو أيضا يحتاج إلى سد الفجوة بين الإدارة والموظفين تماما كما تم شرحه سابقا.

دور إدارة الموارد البشرية في التحسين المستمر 

يتلخص دور إدارة الموارد البشرية في التحسين المستمر بما يلي:

  • التنسيق الكامل مع الفريق التوجيهي للتحسين المستمر والاشراف على توزيع الموظفين على المجموعات الصغيرة بعد التنسيق مع مدرائهم المباشرين.
  • إدخال إنجازات التحسين المستمر في التقييم السنوي للموظفين على أن تحظى بنسبة جيدة من التقييم.
  • إدراج مراحل تطوير الموظفين في تعلم أدوات التحسين المستمر وبناء مهارات حل المشكلات وبناء القدرات من خلال التعلم من التحسين المستمر في خطط التدريب السنوية، جنبا إلى جنب مع الدورات الداخلية والخارجية /
  • التركيز على توظيف موظفين جدد لديهم الشغف في التعلم والتطور إضافة إلى المؤهلات العلمية والجدارات والمهارات المطلوبة للوظيفة. 

ماذا يمنع الشركات و المؤسسات الأردنية من تطبيق التحسين المستمر؟

هناك عدة أسباب منها:

  • عدم وعي إدارات الشركات بفوائد تطبيق منظومة التحسين المستمر.
  • الخوف من الفشل.
  • التحسين المستمر هو استثمار طويل الأمد في الطاقات البشرية والموارد قد لا ترغب الشركات في هذا النوع من الاستثمار البشري.
  • الفجوة الكبيرة بين الإدارات والموظفين.
  • الاعتقاد بأنها أفكار يابانية لا يمكن تطبيقها في الأردن لاختلاف الثقافات.
  • الرغبة في الحصول على نتائج تحسين سريعة (Quick Wins) ولذلك تعمد بعض الشركات إلى الاستعانة بمستشارين ليقوموا بإجراءات التحسين من خلال مشاريع قصيرة الأمد دون إشراك الموظفين الا أن هذه التحسينات لا يكتب لها العمر الطويل.
  • الجهات الرسمية مثل غرف الصناعة وبعض الجهات المانحة لا تشجع على ذلك فهي تقدم المنح لتحسين عمل الشركات من خلال إحالة عقود على الشركات الاستشارية الأرخص والتي تقوم بتحسينات سريعة قصيرة الأمد.

هل يمكن للشركات الناشئة من تأسيس منظومة التحسين المستمر؟

إن الشركات الناشئة هي الأسهل والأسرع في تطبيق التحسين المستمر، فعدد موظفيها قليل وهي تزرع ثقافة التحسين المستمر منذ البداية حيث تصبح من ضمن عمل الشركة الاعتيادي. أنا أدعو جميع مؤسسي الشركات الناشئة إلى تبني ثقافة التحسين المستمر منذ بداية عمل الشركة.

بقلم محمد العجلوني 

https://www.linkedin.com/in/mohammad-ali-ajlouni-58b01849/